إن البحث في نشأة الفكر الإرجائي يستلزم منا بالضرورة أن ندحض بالحجج الصريحة ما ذهب إليه بعض الناس، من القول بأن أصل المرجئة هو تلك الطائفة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي لم تخض فيما خاض فيه غيرها من الفتن، وفضلت الاعتزال والإمساك عن الدخول في تلك المأساة الكبرى.
وهذا الزعم تبناه قديماً بعض رءوس الضلالة من المتكلمين وأعداء الصحابة, كـالرافضة والخوارج، ولكنه ظل قولاً مهلهلاً مندثراً، حتى بعثه المستشرقون وأتباعهم من المستغربين، فدرج على ألسنة المؤرخين والدارسين للفرق، وتداولوه حتى أصبح كأنه حقيقة مسلمة، وأرجعوا الفضل في اكتشافها إلى المنهج العلمي الذي انتهجه المستشرقون!!
والمسألة بالنسبة لنا بدهية معلومة من الدين بالضرورة؛ فالكلام في أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين، والدين لا يؤخذ عن المسلم الفاسق، ولا اعتبار لرأيه فيه، فضلاً عن المبتدع الضال كـالكعبي؛ ، والجاحظ فضلاً عن الكافر الحاقد كعامة المستشرقين.
والله تعالى قد قال في الفاسقين: ((وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً))[النور:4] والحكم على أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من مجرد الشهادة، لأنه دين واعتقاد، وإذا كان من شريعتنا رد شهادة المسلم الفاسق في دعاوى الحقوق الدنيوية, فما بالك بمن يتجرأ على خيار الأمة وأفضل البشر بعد الأنبياء من الصليبيين واليهود؟!
لقد مقت سلف الأمة عمرو بن عبيد، وضللوه وبدعوه من أجل طعنه في المقتتلين من الصحابة، هذا مع ما هو مشهور عنه من الزهد والتعبد ومجانبة السلاطين، فكيف يلتفت المسلم إلى آراء أهل الكتاب الذين تغلي مراجل قلوبهم بالحقد على الإسلام، وتنفث ألسنتهم السُمَ الزُعاف عليه، وما تخفي صدورهم أعظم؟!
فماذا نتوقع من جولد زيهر اليهودي إلا مثلما ذهب إليه سلفه عبد الله بن سبأ أو أعظم، وماذا نظن بفان فلوتن، وكريمر ووويلهاوسن ، ونيكلسون... وأضرابهم أن يقولوا، والحرب الصليبية لم تتوقف لحظة واحدة، ولن تتوقف حتى تكون الملحمة مع الروم بأرض الشام بين يدي الساعة كما صح عن الصادق المصدوق؟
وإن من يقبل كلام هؤلاء -بل يجله ويعظمه- يلزمه أن يقبل كلام عبد الله بن سبأ، وحمدان قرمط، وابن الراوندي، وميمون القداح، وابن النغريلة، وإلا فإنه متناقض، أو مخدوع بالمسحة العلمية الحيادية التي يزعمها هؤلاء المستشرقون.
وما كان لنا أن نأبه بآراء المستشرقين ونشغل بردها، لا في هذه القضية ولا فيما هو دونها، فنحن لا نتوقع منهم إلا هذا ومثله، فقد تبين لي من قراءة كافية في كتبهم أنهم قوم بهت- كما وصف عبد الله بن سلام رضي الله عنه أجدادهم اليهود- وأنهم لو كان الافتراء على الإسلام في السماء لاتخذوا إليه سلماً، ولو كان في الأرض لابتغوا إليه نفقاً.
ولكن اقتداء كثير من الكتاب المنتسبين إلى الإسلام بهم ومتابعتهم لرأيهم، واستناد هؤلاء وأولئك إلى آراء مخطئة أو أقاويل بدعية، جعل تبيان هذه القضية أمراً ضرورياً.
فقد نقل عنهم واقتدى بهم علماء شريعة مشهورون، ومتخصصون في العقيدة بارزون، ومؤرخون وأدباء لهم مكانتهم، وذلك مثل: الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور علي سامي النشار، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور نعمان القاضي...فضلاً عن أحمد أمين وطه حسين وسهير القلماوي وشاكر مصطفى وأمثالهم وأتباعهم.
ويعجب الباحث أيما عجب حين يجد علماء وأساتذة ومؤرخين عرباً مسلمين يعتمدون اعتماداً كلياً على الكتيّب -بل المقال- الضحل السقيم الذي كتبه فان فلوتن بعنوان السيطرة العربية أو الاستعمار العربي، والذي ترجموه مخففاً باسم السيادة العربية!!
وإنني لأجزم يقيناً- ولو حلف غيري ما عددته حانثاً- هؤلاء الأساتذة لو قدر لأحدهم أن يناقش ما كتبه فلوتن باعتباره رسالة أو بحثاً لأحد الطلبة الأزهريين، لما منحه أدنى درجة علمية، ولأوسعه نقداً وذماً كما هو الحال في كثير من الرسائل العلمية التي هي أعلى مستوى في ذلك.
فهل كون الكاتب مستشرقاً يجعل ما كتبه مقبولاً، بل حجة ينقل عنها الأساتذة المتخصصون؟! والأنكى من ذلك أن يعارض به كلام المؤرخين المسلمين، حتى في مسألة تاريخية بحتة، كتحديد وفاة الحارث بن سريج!!
ويبدو لي أن بعض المستشرقين العرب مثل: أحمد أمين وزميله طه حسين وعبد الحميد العبادي قد تنبهوا لما قد يثار عن هذه المسألة، فما أن وجدوا نصاً للنووي يشعر بما يريدون حتى ألحقوه في هامش الكتاب، وكأنما هو أصل مستندهم أو بعضه.
وبصرف النظر عن الحقد والتعصب لدى المستشرقين، نقول: إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الموضوع هو القياس الفاسد؛ فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في أنظار هؤلاء أن يكون أزمة صراع على السلطة، من ذلك النوع الذي تشهده الحكومات الأوروبية منذ انقراض عصر الملكيات التقليدية!
أما التزكية الإيمانية والتربية النبوية فأثرها عند هؤلاء محدود أو معدوم، وإليك رأي مؤلفي فجر الإسلام ''حين يتساءلون: إلى أي حد تأثر العرب بالإسلام؟, وهل انمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء، فالنزاع بين القديم والجديد، والدين الموروث والحديث يستمر طويلاً، ويحل الجديد محل القديم تدريجياً، وقل أن يتلاشى بتاتاً ''
ولذلك تم تصنيف الفرق الإسلامية وفقاً لتصنيف الأحزاب السياسية والدينية الأوروبية، وابتدءوا ذلك منذ وفاة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل وفي حياته!!
فجعلوا في الأمة يميناً ويساراً ووسطاً، وفي كل من اليسار واليمين متطرفون ومعتدلون... إلخ، وكذلك قسموها إلى ديموقراطيين وثيوقراطيين ودكتاتوريين... إلخ.
ولسنا في مقام تفصيل المهازل الساخرة التي أدى إليها تطبيق هذا القياس الفاسد، والخلافات التي لا يقوم أي منها على أساس موضوعي؛ مثل أن يجعل أحدهم الشيعة من اليسار المتطرف، والآخر يجعلها من اليمين المعتدل، ويجعل الخوارج بالعكس...وهكذا.
ولكن الذي يهمنا هنا هو: أن هذا التصنيف أدى إلى اعتبار الطائفة الممسكة عن الفتنة- من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي مجرد طائفة سياسية محايدة، ومن ثم جرى طرد القياس على كل طائفة شابهتها في الموقف أو بعضه، ثم إنهم لما رأوا أن لبعض هذه الفرق- التي تنتمي في أصل تصنيفهم إلى الوسط المحايد، كـالمعتزلة وثورة الحارث بن سريج- آثاراً إيجابية في عالمي السياسة والفكر، كان لابد لهم من التعسف والتكلف، فقالوا: إن المرجئة تحولت من تيار الوسط إلى تيار اليسار بفعل التناقضات السياسية... أو ما أشبه هذا من التعليلات!
فليس مهمّاً لديهم أن تنقلب حقائق التاريخ، فتصبح المعتزلة مرجئة، وتصبح المرجئة حركة ثورية يسارية، وإنما المهم أن تظل معاييرهم الاعتباطية هي الأصل الذي لا ينقلب ولا ينتقض!
وها هو ذا ما جاء في كتاب فجر الإسلام الذي يمثل خلاصة آراء المستشرقين، والذي نقل عنه أكثر من بعده، ومنهم أبو زهرة:
'' إن الشيعة والخوارج كانا أول أمرهما حزبين سياسيين تكونا حول الخلافة، وإن رأي الخوارج فيها رأي ديمقراطي، ورأي الشيعة رأي ثيوقراطي، أما المرجئة فكانت.. حزباً سياسياً محايداً.
ونواة هذه الطائفة كانت بين الصحابة في الصدر الأول، فإننا نرى أن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان -مثل: أبي بكرة، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين '' .
ثم ساق حديث أبي بكرة الآتي، وقال: ''هذه النزعة إلى عدم الدخول في الحروب بين المسلمين بعضهم وبعض هي الأساس الذي بني عليه مذهب الإرجاء، ولكنه لم يتكون كمذهب -كما رأينا- إلا بعد ظهور الخوارج والشيعة.
وبعد أن كان مذهباً سياسياً أصبح- بعد- يبحث في أمور لاهوتية، وكانت نتيجة بحثهم تتفق ورأيهم السياسي!! ''
وفي الحاشية يعلق على ذلك قائلاً: يقول النووي على مسلم: "إن القضايا كانت مشتبهة، حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها، فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب ''.
ونحن قد سبق أن بيّنّا أن الممسكين عن الفتنة أقسام مختلفة، وهنا لا بد من بيان حقيقة موقف الصحابة -رضي الله عنهم-، وخطأ من نسب إليهم الإرجاء، سواء أكان إرجاء شك وحيرة أم إرجاء اعتقاد وبدعة، والأمر في حقيقته يرجع إلى مسألة فقهية، وهي حكم قتال الفتنة الذي جرى بين الصحابة، وحكم قتال الفتنة بين المسلمين عامة .
ومع إيماننا بأن الأولى هو الكفُّ عما شجر بين الصحابة -رضي الله عنهم- فإنه لا حرج في عرض مواقفهم على النصوص الشرعية التي أمر الله تعالى بالرد إليها في كل نزاع، لا سيما وهي- ولله الحمد- تدل على صحة ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيهم، وخاصة أهل الحديث، كـأحمد وسفيان، بخلاف ما ذهب إليه أهل الرأي وكثير من الفقهاء المتأخرين، مع ما في هذا من مصالح، كأخذ العبرة، ونفي التهمة تفصيلاً بعد نفيها إجمالاً فنقول: إن النووي -رحمه الله- شافعي المذهب، وكثير من متأخري الشافعية يرون تصويب علي رضي الله عنه وتخطئة من حاربه أو توقف عن الحرب معه، ولكن النووي رجل محدث، وقد رأى من صحة أحاديث النهي عن القتال في الفتنة وكثرتها ما لم يستطع معه الجزم بتخطئة من قعد عن نصرة علي -أعني الممسكين عن الخوض في الفتنة- فأراد التوفيق والتأويل، فاعتذر عن هؤلاء بأنهم لم يتبين لهم الصواب مع علي أم مقاتليه، ووضع في اعتباره أن القول بترك قتال المسلمين مطلقاً يؤدي إلى جرأة المفسدين وتطاول المجرمين- وهي العلة التي يذكرها الفقهاء المتأخرون كثيراً - فجعل الإمساك عن ذلك مخصوصاً بهذه الحالة وحدها.
واعتذر عن العمل بالأحاديث بقوله: ''تتأول الأحاديث على من لم يظهر له الحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما ''.
وهذا الذي ذهب إليه هو وغيره من الفقهاء يتبين صوابه أو خطؤه باستعراض مواقف الممسكين عن الفتنة واحداً واحداً:
1- فهذا أسامة بن يزيد- على عظيم صلته بـعلي رضي الله عنهما- يقول عنه مولاه حرملة: [[أرسلني أسامة إلى علي، وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره]].
فـأسامة يفرق بين العلاقة الحميمة وبين أمر لم يجد له في الشرع مخرجاً، ولو رآه جائزاً لما تردد عنه.
وينقل الحافظ عن ابن بطال: أن أصل موقف أسامة هذا هو ما نذره على نفسه يوم أن قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله- أنه لا يقاتل مسلماً أبداً.
2- وهذا أبو موسى الأشعري، وصاحبه أبو مسعود الأنصاري، يعيبان على عمار مشاركته في القتال- وقد كان مع علي- قال شقيق بن سلمة: '' كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه غيرك، وما رأينا منك شيئاً منذ صحبت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر.
قال عمار: يا أبا مسعود ما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر''
قال الحافظ: ''كان أبو مسعود على رأي أبي موسى في الكفِّ عن القتال؛ تمسكاً بالأحاديث الواردة في هذا الأمر''.
فليس هناك اشتباه، بل القضية من الوضوح بحيث يعيبان عماراً
3- وأما عبد الله بن عمر، فيتخذ هذا موقفاً مطرداً، فهـو لم يشترك في أي قتال بين المسلمين قط، لا زمن علي ولا فيما بعد، لأنه يراه كله قتال فتنة.
روى البخاري: ''أن رجلاً جاءه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا))[الحجرات:9] إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟
فقال: يا ابن أخي، أُعيّر بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إليّ من أن أُعيّر بهذه الآية التي يقول الله تعالى: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً))[النساء:93] إلى آخرها .
قال: فإن الله يقول: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ))[البقرة:193].
قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الإسلام قليلاً, فكان الرجل يفتن في دينه, إما يقتلوه وإما يوثقوه حتى كثر الإسلام, فلم تكن فتنة ''
4- وأما أبو بكرة رضي الله عنه، فإنه لم يقتصر على كفِّ اليد، بل نهى غيره، وأنكر عليه المشاركة في القتال، فقد روى الشيخان عن الحسن البصري أن الأحنف بن قيس أخبره أنه خرج بسلاحه يريد القتال في الفتنة- وكان ذلك يوم الجمل، وقصده القتال مع علي -رضي الله عنه- فلقيه أبو بكرة -رضي الله عنه- فصده عن ذلك، وقال: يا أحنف ارجع، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار}.
وليس هذا صنيع الحائر المتشكك, بل هو موقف الواثق المستيقن, وسيأتي حديثه الآخر قريباً.
5- وهناك من المعتزلين للفتنة من كان وضوح أمرها لديه بحيث إنه احتاط لنفسه من شرها بمجرد انفجارها، فهذا سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- لما قتل عثمان -رضي الله عنه- خرج إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولاداً، فلم يزل بها، حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة .
فقد تغرب -رضي الله عنه- حوالي أربعين سنة -منذ مقتل عثمان سنة 35 إلى وفاته سنة 74- ثم مات في دار الهجرة كرامة من الله له.
6- وممن أحجم عن الفتنة، وحدَّث الناس بخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها أبو هريرة رضي الله عنه، فقد حدَّث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأبو بكرة أنه قال: {ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأً أو معاذاً فليعذ به}.
وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة، ولـمسلم عن أبي بكرة زيادة أوضح: {ألا فإذا نزلت- أو وقعت- فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه...} الحديث.
ويتضح من هذه النصوص:
أولاً: أن الصحابة الذين اعتزلوا الفتن يعتمدون على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعضها أوامر عينية في حق المخاطبين بها وبعضها لم نذكره.
ثانياً: أن من كمال فقه الصحابة -رضي الله عنهم- التفريق بين صحة إمامة علي وبين وجوب القتال معه، بل صحة قتاله، إذ لا يلزم من كونه إماماً حقاً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين حقاً بإطلاق على ما سنبينه.
على أن هؤلاء ليسوا هم كل من اعتزل الفتنة، بل اعتزلها من هو أجل منهم مثل: سعد بن أبي وقاص، فإنه لم يكن على ظهر الأرض يوم صفين أفضل منه سوى علي وسعيد بن زيد، أحد العشرة، وهنالك من هو مثلهم، كـزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهم.
ومنهم أبو برزة الأسلمي -رضي الله عنه- الذي صدع أيام الفتنة بين ابن الزبير والأمويين والخوارج: [[إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش]] الحديث، وذلك لأنه ''كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين'' .
وبالجملة: هذا هو مذهب أهل الحديث عامة، ومن تأمله ظهر له قوة دلائله النصية, وصدق نتائجه الواقعية، فقد صرح به إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وبنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية.
روى عنه الخلال أنه قال: '' ابن عمر وسعد ومن كفَّ عن تلك الفتنة، أليس هو عند بعض الناس أحمد! هذا علي لم يضبط الناس، فكيف اليوم والناس على هذا الحال... السيف لا يعجبني ''
وقال أبو بكر المروزي: '' سمعت أبا عبد الله -وقد ذكر عنده عبد الله بن مغفل- فقال: لم يتلبس بشيء من الفتن! وذكر رجل آخر فقال: رحمه الله مات مستوراً قبل أن يبتلى بشيء من الدماء ''
وممن صح النقل عنه من أهل الحديث سفيان الثوري -رحمه الله- وله كلمة عظيمة في هذا، قال: ''نأخذ بقول عمر -رضي الله عنه- في الجماعة، وبقول ابنه في الفرقة ''
وكان -رحمه الله- يصرح قائلاً: '' لو أدركت علياً ما خرجت معه!! ''
قال يحيى بن آدم: ''فذكرت قوله للحسن بن صالح فقال: قل له: يحكي هذا عنك؟ فقال سفيان: ناد به عني على المنار.''
وعلى هذا المذهب كذلك الإمام البخاري صاحب الصحيح، فإن تراجم أبواب كتاب الفتن من صحيحه تنطق بذلك، وعلى منواله كتب مسلم وغيره من المصنفين في هذا الموضوع.
وقد رجح هذا المذهب، وانتصر له شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في مواضع من كتبه، ومختصر أدلته على ذلك:
1- النصوص الكثيرة التي استند إليها الممسكون عن الفتنة، ومنها ما سبق إيراده.
2- ثناء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحسن، لأن الله أصلح به ما بين المسلمين وحقنت الدماء، في حين أنه لم يثن على قتال أبيه لأهل الشام، بل غاية ما وصف به أنه أدنى منهم إلى الحق، بخلاف قتاله للخوارج، فقد أثنى عليه نصاً، كما أن علياً نفسه فرح واستبشر بقتال الخوارج، وتألم وتكدر بقتال أهل الشام.
3- أن الممسكين عن الفتنة هم من أكابر الصحابة -رضوان الله عليهم- وأفاضلهم، وقد ذكرنا بعضهم قريباً.
4- أن العبرة بالنتائج والعاقبة، ولا شك أن نتيجة الاقتتال كانت مؤلمة جداً في حين كانت السلامة في الإمساك، ولهذا ندم بعض من شارك، كما في البخاري عن شقيق بن سلمة حين سئل: '' هل شهدت صفين؟ قال: نعم، وبئست صفون ''.
بل نقل شَيْخ الإِسْلامِ عن علي نفسه أنه قال: '' لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطأه ليسير'' .
5- أنه لا حجة في استدلال المخالفين بقتال الفئة الباغية، وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقتال الباغية، وسماها باغية إذا رفضت الصلح ولم يأمر بقتالها ابتداءً، وللصلح أبواب كثيرة، ولو بالتنازل عن بعض الحق أو كثير منه.
6- أنه قد كان في الإمكان اتخاذ وسائل غير السيف لتهدئة الأحوال وجمع الكلمة، ومنها ما أشار به ابن عباس على علي بألا يعزل معاوية عن إمرة الشام، بل يبقيه في منصبه حتى يأخذ البيعة منه ومن أهل الشام، فإذا فعل ذلك وكانت المصلحة عزله، فإن رفض الطاعة يكون حينئذٍ باغياً ناكثاً.
أما وهم لم يدخلوا في طاعة علي ابتداءً، فإن هذا من أقوى استدلالات من يرى صواب موقفهم، لا سيما والثابت أن معاوية رضي الله عنه لم ينازع علياً الخلافة، وإنما اشترط لدخوله في طاعته تسليم قتلة عثمان.
* ولذلك تفصيل لا مجال له هنا، وحسبنا الإشارة والتنبيه.
يبقى أن نرد قول من قال: إنه يلزم من هذا تشجيع المفسدين وقطاع الطرق .
فنقول: إن قتال الفتنة- كما وقع بين الصحابة- شيء، وقتال قطاع الطرق والمفسدين شيء آخر، وقد قتل من الخوارج بـالنهروان قرابة أربعة آلاف فما تألم لهم أحد، وقتل كعب بن سور يوم الجمل فتألمت لذلك الطائفتان جميعاً، فكيف بـطلحة والزبير وعمار؟ فالمفسدون أقرب شيء إلى الخوارج، ولا يتحرج من قتالهم أحد، ولا يترتب عليه تمزيق صف المسلمين، بل فيه حفظ وحدتهم وأمنهم، وكذا دفع الصائل.
وأما أن يكون المرء عبد الله المقتول ولا يكون عبد الله القاتل، فذلك مشروع في الفتنة بين المسلمين المختلفين اختلافاً اجتهادياً مصلحياً، والله أعلم.
والحاصل: أن هذا المذهب أقوى من مذهب من يرى أن الصواب مطلقاً هو القتال مع علي، وبالأولى هو أقوى ممن يرى أن الصواب هو القتال مع من حاربه، وبذلك يتضح أنه أقوى المذاهب وأرجحها.
على أن الذي يهمنا هنا بخصوصه هو بيان خطأ أو ضلال من نسب هؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- إلى الإرجاء، زاعماً أن الأمور اشتبهت عليهم فتبرءوا من الطائفتين كليهما، وأرجئوا الحكم عليهما بالإيمان- بالحق أو الباطل- إلى الله تعالى، فخلطوا بين هذا الموقف, وموقف بعض الخوارج, وموقف الشكاك الذين سبق الحديث عنهما.
وما أحسن ما قاله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في براءة الصحابة -رضي الله عنهم- من كل بدعة، قال: '' إن الصحابة -رضوان الله عليهم- خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم.
وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأموالهم وأنفسهم... ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ممن بعدهم، ولم يكن منهم أحد من أهل البدع المشهورة، كـالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم '' .